لم أتفاجأ من تتالي إعلانات المؤسسات الإعلامية السمعية والبصرية دخول برامجها السياسية في “سبات صيفي”، وتونس على أعتاب انتخابات رئاسية مرجعها الزمني دستور 2014 ومرجعها التنظيمي والقانوني دستور 2022.
كانت “القوّة القاهرة” سببا في اختفاء برنامجيْ “l’émission impossible” و”الدنيا زينة” من إذاعة ابتسامة أف أم وتلفزيون قرطاج بلوس، وذلك بعد سجن ثالوث من فريق البرنامجين والمؤسستين وهم برهان بسيس ومراد الزغيدي وسنية الدهماني.
وعلى خلاف ما ألفناه في عشرية الانتقال الديمقراطي، فقد قابلت المؤسسات الإعلامية ما تعيشه بنوع من القبول والاستسلام إلى الأمر والواقع وصولا إلى الانسحاب، في حين كانت تعتصم بمقولات النضال والعمل على تكريس نوع من التوازن مع السلطات التنفيذية والتشريعية، ممّا ارتقى بها إلى مستوى السلطة المضادة، بل السلطة القادرة ليس على التأثير فقط وإنّما التغيير.
الإعلام وانتهاء زمن السلطة المضادّة
كانت لحظة 25 جويلية 2021 وما تضمّنته من إجراءات يمكن اختزالها في مشهديْ توسّط رئيس الجمهورية القيادات العسكرية والأمنية أوّلا وغلق مجلس النواب بآلية عسكرية ثانيا، ثمرة من ثمرات تهيئة وسائل الإعلام لبعض شروط إمكانها. ويمكن التذكير بقدرة الإعلاميين على الاستمرار في العمل وعلى الدفاع على المنضوين تحت لواء المهنة حتّى لو انتمت قضاياهم إلى عالم الفساد المالي والإداري.
إنّ الانسحاب من المشهد بفعل سياسات السلطات السائدة والقائمة بمختلف مستوياتها لم يكن ضمن خيارات المؤسسات الإعلامية والإعلاميين.
أمّا اليوم، فإنّ ردّ الفعل لم يعد متناسبا مع الفعل من حيث القوّة ومعاكسا له من حيث الاتّجاه، بل غدا إقرارا بالعجز عن الفعل والاستسلام للواقع ذي الواجهة القضائية بفعل مرسوم رئاسي (المرسوم 54) “نجح” في إعادة هندسة المشهد الإعلامي، خاصة السمعي والبصري منه.
وللتوضيح، فإنّ التأكيد للإعلام السمعي والبصري فقط ليس فيه إغفال للإعلام الورقي المكتوب والإلكتروني.
ذلك أنّ الواقع الاقتصادي والتحوّلات التكنولوجية كفت السلطات عناء الاهتمام بالمكتوب، فهو موزّع بين التآكل الذاتي والتحوّل الرقمي.
أمّا الإلكتروني فتتصدّره مواقع الإذاعات والتلفزات وفق ما تُبرزه الإحصائيات رغم حرص بعض الجرائد الإلكترونية والمواقع على التميّز سواء بالتركيز على الجودة والاستقصاء أو الدفاع عن الحريات والقضايا العادلة.
لم تكن “القوّة القاهرة” المتمثّلة في سجن الإعلاميين السبب الوحيد لاتّخاذ سبيل الصمت والانسحاب “خيارًا”.
لقد “تطهّر” المشهد الإعلامي ذاتيّا من خلال الانصياع للضرورات الاقتصادية.
فهذا البرنامج السياسي “يحدث في تونس” يختفي من قناة حنبعل الخاصة، وذلك البرنامج الحواري اليومي “ميدي ماد” على موجات راديو ماد يسلك الطريق نفسه ليغيب صوت الإعلامية إيمان المداحي.
وقاد “الظرف الاقتصادي” إذاعة شمس أف أم المصادرة إلى “انسحاب قهري” تحت عنوان الاندماج أو التذويب ضمن مؤسسة الإذاعة التونسية، وبذلك اختفت برامجها السياسية من الساحة وتوزّع الإعلاميون بين خياريْ الهجرة أو الاندماج في الخط التحريري لمؤسسةٍ أرادها الانتقال الديمقراطي عمومية لكنّ المتمعّن في واقعها بعد 25 جويلية يدرك يقينا أنّها غدت رئاسية وحكومية بامتياز.
الإعلاميون والأشكال الأربعة للانسحاب
وعلى شبكة التواصل الاجتماعي فيسبوك صدع الإعلامي إلياس الغربي منشّط البرنامج السياسي الأكثر متابعة مقارنة بباقي البرامج السياسية الإذاعية بما يتردّد في صدور الكثيرين ولكن الصوت لا قِبَل له بتجاوز الحنجرة، والتعلاّت كثيرة أحفظها للكرامة مقولة “واجب التحفّظ”.
فقد أكّد أنّ إيقاف عدد من الصحفيين وسجنهم “كان بمثابة الزلزال”، وأنّ ما جرى جعل فريق العمل يُدرك إكراهات العمل الإعلامي، مضيفا “أنّ الأداء الإعلامي تحوّل اليوم إلى ثرثرة عقيمة وأشبه ما يكون بالحرث في البحر”. ليكون القرار الانسحاب من البرنامج وليس من الإذاعة.
ويُعدُّ الانسحاب الطوعي رابع شكل من الانسحابات، بعد سحب البرنامج بسبب سجن العاملين فيه، والانسحاب لأسباب اقتصادية، والانسحاب بالتذويب والدمج.
لسنا في وارد إحصاء الانسحابات، أو إبراز من تمسّك بالدفاع عن تجربة الانتقال الديمقراطي من خلال منبره الإعلامي، أو تقديم قراءة تفصيلية في تغيّر المشهد الإعلامي بعد إجراءات 25 جويلية 2021، وإنّما القصد التنبيه إلى أنّ شيئا ما يحدث في تونس نرى نتائجه وإفرازاته (لا توجد ثمرات).
ما يحدث اليوم يتطابق مع رؤية ساكن قرطاج للإعلام ودوره، ولعلّ ما قاله عن التلفزة الوطنية وضرورة انخراطها في التسويق للخيارات التي “يريدها الشعب” يغُني عن التفصيل. وهو ينسجم كذلك مع المشروع القائم على إلغاء الوسائط. والإعلام هو أوّل الضحايا، لكنّ الأمر لا يقف عنده ولن يقف.
تعصف هذه المتغيّرات بالمشهد السياسي التونسي، ونحن على مشارف انتخابات رئاسية من المفترض إجراؤها بعد ثلاثة أشهر، أي خلال أكتوبر.
وقد ألفنا في عشرية الانتقال الديمقراطي استمرار البرامج السياسية في الإذاعات والقنوات التلفزيونية صيفا لمواكبة تطورات المشهد السياسي، أمّا اليوم فإنّ الزمن غير الزمن. يكفي أن نقف عند التحوّل الجذري للـ”خط التحريري” للإعلام، من إعلام مضاد للسلطة وصانع للأحداث إلى إعلام تحت ضغط “الإكراهات” حينا وباحثٍ عن السلامة أحيانا، إنّه الصمت الانتخابي قبل الأوان. أمّا المتمسكون بالخيارات ذاتها، فقليل ما هُم.
بقلم: عبد السلام الزبيدي